فصل: قال السمرقندي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال النسفي:

قيل: قتلوا في يوم واحد ثلثمائة نبي في بيت المقدس. اهـ.

.قال الفخر:

هذه الآية دالة على أن المجادلة في الدين من حرف الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وإن إيراد المناقضة على الخصم جائز. اهـ.
قال الفخر:
قوله: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ} وإن كان خطاب مشافهة لكن المراد من تقدم من سلفهم ويدل عليه وجوه:
أحدها: أن الأنبياء في ذلك الزمان ما كانوا موجودين.
وثانيها: أنهم ما أقدموا على ذلك، وثالثها: أنه لا يتأتى فيه من قبل.
فأما المراد به الماضي فظاهر لأن القرينة دالة عليه.
فإن قيل قوله: {ءامَنُواْ} خطاب لهؤلاء الموجودين: {ولم تَقْتُلُونَ} حكاية فعل أسلافهم فكيف وجه الجمع بينهما؟ قلنا معناه: أنكم بهذا التكذيب خرجتم من الإيمان بما آمنتم كما خرج أسلافكم بقتل بعض الأنبياء عن الإيمان بالباقين. اهـ.
سؤال: يقال كيف جاز قوله: لم تقتلون من قبل ولا يجوز أن يقال: أنا أضربك أمس؟
والجواب فيه قولان.
أحدهما: أن ذلك جائز فيما كان بمنزلة الصفة اللازمة كقولك لمن تعرفه بما سلف من قبح فعله: ويحك لم تكذب؟ كأنك قلت: لم يكن هذا من شأنك.
قال الله تعالى: {واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين} [البقرة: 102] ولم يقل ما تلت لأنه أراد من شأنها التلاوة.
والثاني: كأنه قال: لم ترضون بقتل الأنبياء من قبل إن كنتم آمنتم بالتوراة. والله أعلم. اهـ.

.قال السمرقندي:

وفي الآية دليل أن من رضي بالمعصية فكأنه فاعل لها، لأنهم كانوا راضين بقتل آباءهم الأنبياء، فسماهم الله تعالى قاتلين.
وفي الآية دليل أن من ادعى أنه مؤمن، ينبغي أن تكون أفعاله مصدقة لقوله، لأنهم كانوا يدعون أنهم مؤمنون بما معهم.
قال الله تعالى: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاء الله}، يعني أي كتاب يجوِّز قتل نبي من الأنبياء عليهم السلام وأي دين وإيمان جوَّز فيه ذلك يعني قتل الأنبياء. اهـ.

.قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة:

{وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87) وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88) وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)}.
التفسير:
لما ذكر سبحانه في آلاي المتقدمة صنيع اليهود في مخالفتهم أمره تعالى ومناقضة حالهم، أكد ذلك في هذه الآي بذكر نعم أفاضها عليهم ثم إنهم قابلوها بالكفران ونقيض المقصود زيادة في تبكيتهم. أما الكتاب فهو التوراة آتاه الله تعالى إياه جملة واحدة. عن ابن عباس أنها لما نزلت أمر الله موسى بحملها فلم يطق ذلك، فبعث الله لكل آية منها ملكًا فلم يطيقوا حملها، فبعث الله لكل حرف منها ملكًا فلم يطيقوا حملها، فخففها الله على موسى عليه السلام فحملها. القفو والتقفية الإتباع وهو من القفا كالتذنيب من الذنب أي أتبعنا على أثره رسلًا كثيرين وهم يوشع وأشمويل وشمعون وداود وسليمان وشعيا وأرميا وعزير وحزقيل وإلياس واليسع ويونس وزكريا ويحيى وغيرهم.
روي أن هؤلاء الرسل كانوا على شريعة واحدة إلى أيام عيسى عليه السلام فإنه جاء بشريعة مجددة ناسخة لأكثر شرع موسى، وكان المقصود من بعثة ثؤلاء تنفيذ الشريعة السالفة وإحياء بعض ما اندرس منها ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم: «علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل» «إن الله سيبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة من يجدد لها دينها» فقيل عيسى بالسريانية أيشوع أي المبارك، ومريم بمعنى الخادم. وقيل مريم بالعبرية من النساء كالزير من الرجال وهو الذي يحب محادثة النساء ومجالستهن، سمي بذلك لكثرة زيارته لهن وبه فسر قول رؤبة:
قلت لزير لم تصله مريمه

ووزن مريم عند أهل الصرف مفعل لأن فعيلًا بفتح الفاء لم يثبت في الأبنية كما ثبت نحو عثير للغبار وعليب اسم واد.
البينات المعجزات الواضحات كإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وغير ذلك، أيدناه قويناه من الأيد القوة، وبروح القدس الروح المقدس كما يقال حاتم الجود ورجل صدق أي بجبريل سمي بذلك لأنه سبب حياة الدين كما أن الروح سبب حياة البدن، ولأنه الغالب عليه الروحانية، ولأنه لم تضمه أصلاب الفحول ولا أرحام الأمهات، وقيل بالإنجيل كما قال: {وكذلك أوحينا إليك روحًا من أمرنا} [الشورى: 52] لأن العلم سبب حياة القلوب، وقيل: باسم الله الأعظم الذي كان يحيي الموتى بذكره، عن ابن عباس وسعيد بن جبير. وقيل: الروح الذي نفخ فيه، والقدس والقدوس هو الله، وإضافة الروح إليه تشريف وتعظيم كما يقال: بيت الله وناقة الله. عن الربيع: وكون الروح هاهنا جبريل أظهر لأن اختصاصه بعيسى أكثر لأنه الذي بشر مريم بولادتها وقد تولد عليه السلام من نفخة جبريل في أمه وهو الذي رباه في جميع الأحوال وكان يسير معه حيث سار وكان معه حين صعد إلى السماء.
قوله تعالى: {أفكلما} وسطت الهمزة بين الفاء وما تعلقت به من قوله: {ولقد آتينا} لإفادة التوبيخ والتعجيب من شأنهم، ويجوز أن تكون الفاء للعطف على مقدر معناه أأعرضتم فكلما {جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم} الباء للتعدية أو بمعنى مع، وذلك أنهم كانوا إذا أتاهم رسول بخلاف ما يهوون كذبوه وإن تهيأ لهم قتله قتلوه ترفعًا وترؤسًا على عامتهم. وأخذ أموالهم بغير حق يوهمون عوامهم أنهم على الحق والنبي صلى الله عليه وسلم على الباطل، ويحتجون على ذلك بالتحريف وسوء التأويل، ومنهم من كان يستكبر على الأنبياء استكبار إبليس على آدم عليه السلام {ففريقًا كذبتم} على التمام وما بقي منه غير مكذب {وفريقًا تقتلون} أي ما تيسر لكم قتله بعد على التمام لأنكم تحومون حول قتل محمد صلى الله عليه وسلم لولا أني أعصمه منكم ولذلك سحرتموه وسممتم له الشاة. قال صلى الله عليه وسلم عند وفاته: «ما زالت أكلة خيبر تعادّني فهذا أوان قطعت أبهري».
والعداد اهتياج وجع اللديغ بعد كل سنة، والأبهر عرق يخرج من القلب إذا انقطع مات صاحبه. ويجوز أن يراد الحال الماضية لأن الأمر فظيع فأريد استحضاره في النفوس وتصويره في القلوب كقوله:
فأضربها بلا دهش فخرت

وفائدة تقديم المفعول به على الفعلين بعد رعاية الفاصلة في {يقتلون} بيان غاية عنادهم وفرط عتوهم حيث جعلوا الرسل فريقين: أحدهما مخصص بالتكذيب والآخر بالقتل، كأن وصف الرسالة عندهم هو الذي اقتضى عندهم أحد هذين حتى خص المنعوت به دون سائر الناس بأحد الأمرين، وهذا نهاية الجهالة حيث استقبلوا أشرف الأصناف لأكرم الأوصاف بغاية الاستخفاف. غلف جمع أغلف وهو كل ما فيه غلاف ومنه الأغلف للذي لم يختن، أي قلوبنا مغشاة بأغطية فلا تتأثر من دعوتك لمكان الحائل بينهما.
وقيل: غلف تخفيف غلف بضمتين جمع غلاف أي قلوبنا أوعية للعلم والحكمة فنحن مستغنون بما عندنا عن غيره لا حاجة بنا إلى شرعك.
{بل لعنهم الله} رد لقولهم وأن تكون قلوبهم مخلوقة كذلك لأنها خلقت على الفطرة، والتمكن من قبول الحق ولكنهم لعنوا أي طردوا عن رحمة الله وأبعدوا عن الخيرات بسبب كفرهم الذي أحدثوه بعد نصب الأدلة وإزاحة العلة. وفي هذا لطف للمكلفين أن لا يتسلقوا إلى المعاصي بإبلاء نحو هذا العذر وإبداء مثل هذه الحجة، ولكن يشمرون عن ساق الاجتهاد «فكل ميسر لما خلق» له {فقليلًا ما يؤمنون} أي إيمانًا قليلًا يؤمنون.
و{ما} مزيدة وهو إيمانهم ببعض الكتاب أو بقليل مما كلفوا به. يؤمنون، فانتصب بنزع الخافض. و{ما} صفة أي بشيء قليل من الأشياء المكلف بها. ويجوز أن تكون القلة بمعنى العدم أي لا يؤمنون أصلًا لا قليلًا ولا كثيرًا كما يقال: قليلًا ما تفعل. أي لا تفعل ألبتة. وذلك أن الإيمان بالله إنما يعبأ به إذا كان مؤمنًا بجميع ما أنزل الله، فإذا فرق بين أوامره فهو عن الإيمان بمعزل.
{ولما جاءهم} جوابه محذوف وهو نحو: كذبوا به واستهانوا بمجيئه. ويجوز أن يكون جوابه هو جواب {لما} الثانية المكررة للتأكيد لطول الكلام نحو قوله: {فلا تحسبنهم بمفازة} [آل عمران: 188] بعد قوله: {لا تحسبن} [آل عمران: 188]. واتفقوا على أن المراد بالكتاب هو القرآن، ووجه تصديقه لما معهم ليس هو الموافقة في أصول الشرائع، لأن جميع كتب الله كذلك، بل المراد ما يختص بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم من العلامات والنعوت والصفات. والتحقيق أن ذكر الكتاب هاهنا كناية عن الرسول لأن الرسول يلزمه الكتاب عرفًا أو مجازًا لأن الكتاب مستلزم للرسول لا محالة يدل على ذلك قوله: {يستخفون على الذين كفروا} [البقرة: 89] وذلك أن اليهود قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم ونزول القرآن كانوا يسألون به الفتح والنصرة على المشركين إذا قاتلوهم يقولون: اللهم انصرنا بالنبي المبعوث في آخر الزمان الذي نجد نعته وصفته في التوراة. وكانوا يقولون لأعدائهم من المشركين: قد أظل زمان نبي يخرج بتصديق ما قلنا فنقتلكم معه قتل عاد وإرم. وقيل: معنى يستفتحون يفتحون عليهم ويعرفونهم أن نبيًا يبعث منهم قد قرب أوانه. والسين للمبالغة أي يسألون أنفسهم الفتح عليهم كالسين في استعجب واستخسر، أو يسأل بعضهم بعضًا أن يفتح عليه، {فلما جاءهم ما عرفوا من الحق} وهو نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ويجوز أن تكون ما بمعنى من نحو: سبحان ما سخركن لنا أي فلما جاءهم النبي صلى الله عليه وسلم الذي كانوا يعرفونه كما يعرفون أبناءهم {كفروا به}، إما لأنهم كانوا يظنون أن المبعوث يكون من بني إسرائيل لكثرة مجيء الرسل منهم فيرغبون الناس في دينه ويدعونهم إليه فلما بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم من العرب من ذرية إسماعيل عليه السلام عظم ذلك عليهم فأظهروا التكذيب بغيًا وحسدًا وعنادًا ولددًا، وإما لأنهم ظنوا أنه صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى العرب خاصة، وإما لأن اعترافهم بنبوته كان يوجب عليهم زوال رياساتهم ومكاسبهم فأبوا وأصروا على الإنكار.
فكفرهم إذًا كفر عناد، {فلعنة الله} وهي الإبعاد عن الخيرات الحقيقية الباقية {على الكافرين} أي عليهم، فوضع الظاهر موضع المضمر ليدل على أن اللعنة إنما لحقتهم لكفرهم، واللام للعهد أو للجنس ويدخلون فيه دخولًا أوليًا. فإن قيل: أليس أنه تعالى ذكر {وقولوا للناس حسنًا} [البقرة: 83] قلنا: العام قد يخص، وأيضًا لعن من يستحق اللعن حسن، وأيضًا أولئك بالنسناس أشبه منهم بالناس {أولئك كالأنعام بل هم أضل} [الأعراف: 179] بئس لإنشاء الذم، وفاعله قد يكون مظهرًا نحو بئس الرجل زيد، وقد يكون مضمرًا يعود إلى معهود ذهني فيفسر حينئذ بنكرة منصوبة وبعدهما المخصوص بالذم فما نكرة منصوبة مفسرة: لفاعل بئس أي بئس شيئًا اشتروا به أنفسهم، والمخصوص بالذم {أن يكفروا} واختلف في إعراب المخصوص فقيل: مبتدأ والجملة قبله خبره. وقيل خبر مبتدأ محذوف أي هو أن يكفروا. واشتروا بمعنى باعوا لأن الكفر حاصل تعلق نفوسهم بأبدانهم كما أن الثمن حاصل ملك المالك. وقيل: إن المكلف إذا كان يخاف على نفسه من عقاب الله تعالى فأتى بأعمال يظن بها أنها تخلصه من العقاب فكأنه قد اشترى نفسه بتلك الأعمال، وهؤلاء اليهود لما اعتقدوا فيما أتوا به أنه يخلصهم من العقاب ويوصلهم إلى الثواب، فقد ظنوا أنهم قد اشتروا أنفسهم بها، والمراد بما أنزل الله القرآن لأنهم كانوا مؤمنين بغيره. ثم بين الوجه الذي لأجله اختاروا هذا الكفر فقال: {بغيًا} أي حسدًا وطلبًا لما ليس لهم، ولولا هذا البيان لجاز أن يكون الباعث لهم على ذلك الكفر هو الجهل لا البغي ولما كان الباعث على البغي قد يكون وجوهًا شتى بين أن الحامل لهم على البغي هو {أن ينزل الله من فضله} الذي هو الوحي {على من يشاء} وتقتضي حكمته إرساله وهذا هو اللائق بما حكينا من أنهم ظنوا أن هذا الفضل العظيم يحصل في قومهم، فلما وجدوه في العرب حملهم ذلك على البغي والحسد، وعلى هذا يكون الجار المحذوف هو لام الغرض أي لأجل أن ينزل، ويحتمل أني قال المحذوف على أي حسدوه على أن ينزل.
{فباءوا بغضب على غضب} لابد من إثبات سببي غضبين: أحدهما تكذيبهم عيسى وما أنزل عليه، والثاني تكذيبهم محمد صلى الله عليه وسلم وما أنزل عليه، فصار ذلك سببًا بعد سبب لسخط بعد سخط وهو قول الحسن والشعبي وعكرمة وأبي العالية وقتادة.
وقيل: الأول لعبادتهم العجل، والثاني لكتمانهم نعت محمد صلى الله عليه وسلم وجحدهم نبوته عن السدي. وقيل: ليس المراد إثبات الغضبين فقط، بل المراد إثبات أنواع من الغضب مترادفة لأجل أمور متوالية صدرت عنهم كقولهم: {عُزير ابن الله} [التوبة: 30] {يد الله مغلولة} [المائدة: 64] {إن الله فقير ونحن أغنياء} [آل عمران: 181] عن عطاء وعبيد بن عمير. وقيل: المراد تأكيد الغضب وتكثير له لأجل أن هذا الكفر وإن كان واحدًا إلا أنه عظيم، وهو قول أبي مسلم. ومعنى الغضب في حقه تعالى قد عرفت مرارًا أنه عبارة عن لازمه وهو إرادة الانتقام، وأما تزايده وتكثره فيصح فيه ذلك كصحته في العذاب، فلا يكون غضبه على من كفر بخصال كثيرة كمن كفر بخصلة واحدة {وللكافرين عذاب مهين} من وضع الظاهر مقام المضمر أي ولهم عذاب، وفائدته ما ذكرنا في قوله: {فلعنة الله على الكافرين} ووصف العذاب بالمهين والمهين هو المعذب لأن الإهانة لما حصلت مع العذاب جاز أن يجعل ذلك من وصفه لأنها بسبب منه، ولا يلزم من اقتران العذاب بالإهانة تكرار فقد يكون العذاب ولا إهانة كالوالد يؤدب ولده {آمنوا بما أنزل الله} بكل ما أنزل الله من كتاب وقد يستدل به على عموم ما {قالوا نؤمن بما أنزل علينا} أي بالتوراة وكتب سائر الأنبياء الذين آتوا بتقرير شرع موسى عليه السلام {ويكفرون بما وراءه} أي قالوا ذلك والحال أنهم يكفرون بما وراء التوراة وهو الإنجيل والقرآن {وهو الحق} الضمير يعود إلى ما وراءه أو إلى القرآن فقط.
و{مصدقًا} حال مؤكدة لوجود شرطها وهو كونها مقررة لمضمون جملة اسمية، أو كون مضمونها لازمًا لمضمون الجملة الاسمية، فإن التصديق لازم حقية القرآن فصار كأنه هو والعامل في {مصدقًا} محذوف وهو يبدو أو يثبت على الأصح. وأما الواو في {وهو الحق} فيجوز أن تكون معترضة فلا محل للجملة، ويجوز أن تكون للحال وحينئذ إما أن يكون العامل فيها هو العامل في قوله: {ويكفرون} على أن كلًا منهما حال بحيالها، وإما أن يكون العامل فيها هو يكفرون على أنهما حالان متداخلتان. وفي قوله: {وهو الحق مصدقًا لما معهم} دلالة على وجوب الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم لأنه لما أثبت نبوته بالمعجزات ثم إنه أخبر أن هذا القرآن منزل من عند الله وأنه صلى الله عليه وسلم أمر المكلفين بالإيمان، كان الإيمان به واجبًا لا محالة، وعند هذا يظهر أن الإيمان ببعض الأنبياء وبعض الكتب مع الكفر ببعضهم وبعضها محال.
وأيضًا أنه صلى الله عليه وسلم لم يتعلم علمًا ولم يقرأ ولم يخط، ثم إنه صلى الله عليه وسلم أتى بالقصص والأخبار مطابقة لما في التوراة، فيعلم بالضرورة أنه صلى الله عليه وسلم استفادها من قبل الوحي وأيضًا القرآن يدل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فلما أخبر الله تعالى عنه أنه مصدق التوراة وجب اشتمال التوراة على الأخبار عن نبوته. فمدعي الإيمان بالتوراة يجب أن يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم وإلا كان كاذبًا. ثم إنه تعالى بين من وجه آخر كذب دعواهم، وهو أن التوراة لا تسوغ قتل الأنبياء وأنهم سوغوا ذلك، وفيه دليل على أن إيراد المناقضة على الخصم الألد جائز. والكلام وإن كان على وجه الخطاب إلا أن المراد بذلك أسلافهم بدليل {من قبل} وتقتلون حكاية حال ماضية. وأصل لم لما بإدخال لام التعليل في ما الاستفهامية، حذفت الألف للتخفيف أي لأي غرض وبأي حجة كان أسلافكم يقتلون الأنبياء. وفي قوله: {إن كنتم مؤمنين} تشكيك في إيمانهم وقدح في صحة دعواهم الإيمان، وجواب الشرط محذوف يدل عليه ما تقدمه. وفيه تنبيه على أن اليهود المعاصرين خرجوا بتكذيب محمد صلى الله عليه وسلم من الإيمان بالتوراة كما أن أسلافهم خرجوا بقتل بعض الأنبياء عن الإيمان بها والله تعالى أعلم. اهـ.